روائع مختارة | روضة الدعاة | فن الدعوة (وسائل وأفكار دعوية) | الدعاة.. والتفكير النقدي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > روضة الدعاة > فن الدعوة (وسائل وأفكار دعوية) > الدعاة.. والتفكير النقدي


  الدعاة.. والتفكير النقدي
     عدد مرات المشاهدة: 2376        عدد مرات الإرسال: 0

هناك العديد من أنماط التفكير التي تحكم آلية الإنتاج الذهني لدى عقولنا، هذه الأنماط تحدد بشكل كبير.

قراراتنا وخطواتنا وخططنا، إذ عليها يبنى طرق التقييم والموازنة والاختيار، هذه الأنماط في مجموعها تمثل الإطار الفكري الواسع الذي لابد أن يتحلى به كافة المخلصين والمفكرين والعاملين لرقي هذه الأمة.

من هذه الأنماط؛ التفكير الإبداعي والتفكير المنطقي والتفكير النمطي والتفكير العاطفي والتفكير النقدي، والنوع الأخير هو ما نحتاج لئن نقف معه قليلا، لحاجتنا الماسة لهذا النوع تحديدا في ظل رفض كثير من الناس لهذا النوع والتوجس منه بلا مبرر حقيقي سوى الأوهام وحب الذات.

طبيعة النفس البشرية تجفل ممن ينتقدها وتجد لنفسها العديد من المبررات التي تطعن بها على صحة ومصداقية هذا النقد، إلا المخلصين من عباد الله الذين تجردت نفوسهم من عوارض رفض النقد ورد النصيحة، وهذا الرفض البشري للنقد والنقاد قد يكون له ما يبرره من وجهة نظر الكثيرين.

فالناقد عادة ما يلقى الأضواء على الجوانب التي لا نراها في تركيبة شخصيتنا أو طبيعة أعمالنا، أو نراها ثم نتعامى عنها رغبة في بقاء الأوضاع كما هي وكراهية للتغيير الذي يكسر ألف الكثيرين منا على أوضاعه وأحواله.

كما أن الكثيرين يعدون للناقد ميزة عاجلة عليهم باكتشافه لمواطن الخلل فيهم وفي أعمالهم، ناهيك عن تولد فطري للغيرة من الناقد بسبب مهاراته التفكيرية التي جعلته يضع يديه على موضع الخلل، والكثيرون كما نعلم يكرهون بشدة أن يرون أفكارهم وأعمالهم وإنتاجهم يهوى تحت طرقات النقد حتى ولو كان نقدا مخلصا صحيحا.

 والإسلام من أكثر الشرائع اعتناءً بمسألة النقد البنّاء وتوجيه النصح، بل إن إسداء النصيحة من أركان البناء الثقافي والمعرفي في الإسلام، ومكون من مكونات الإصلاح والتقويم في مجتمعاتنا، وقد جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم أحيانا من شروط بيعته صلى الله عليه وسلم، جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، قال:

" بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم "، ووسّع رسول الله صلى الله عليه وسلم مدار النصيحة ليجعله شاملا لكل النطاقات الاجتماعية والمعرفية، فعن تميم الداري رضي الله عنه أنه قال:  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم".

وقد طبقت الأمة تفكيرها النقدي بأرقى صوره وطرقه خلال القرون الأولى، ولسان حال الولاة والمسئولين وسائر المسلمين مقولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه " رحم الله امرئ أهدى إلينا عيوبنا "، حتى عمّت الفتن وانتشر الفساد وتسرب الطغيان والاستبداد للعديد من دوائر الحكم في البلاد فرفض النقد وردت النصيحة، والمحصلة النهائية فقدت الأمة قدرتها الذاتية على التقويم والتصويب.

ولو نظرنا بعين التجرد والتقدير لعلمنا أن التفكير النقدي يقدم خدمة لا تقدر بثمن للمجتمع الإسلامي، وينبغي على الدعاة الانتباه لأهمية هذا النوع من التفكير النافع، فدوره وأثره أكبر مما نتخيل، ومن أهم آثاره في المجتمعات وما ينتج عنها من أعمال وأنشطة ما يلي:  

أولا:  محاصرة الأخطاء، فالتفكير النقدي من أرقى أنواع التفكير وقد يصل إلى حد الإبداع إذا أنتج أفكارا خلاّقة وجديدة، وهو على درجة كبيرة من الأهمية في مسيرة الإصلاح والتغيير، على مستوى الفرد والجماعات، لذلك كان من دأبه صلى الله عليه وسلم إسداء النصح والتوجيه لأصحابه في أمورهم الدينية والدنيوية أيضا.

كما قال لابن عمر رضي الله عنهما " نعم الرجل عبد الله، لو كان يصلي من الليل " وكما قال لمن أكل طعاما كثيرا حتى امتلأ " المؤمن يأكل في معيّ واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء " بل أحيانا يشتد في النقد إذا وقعت بعض الأخطاء الجسيمة أو بدرت بعض السلوكيات المخالفة، مثلما فعل مع أبي ذر عندما عيّر بلالا بأمه رضي الله عن الجميع، وعندما قدم بعض أصحابه الرديء من ماله للصدقة، فالنقد والنصح يحاصر الأخطاء ويصّوب المسار ويسدّ الخلل.

ثانيا:  إبراز مواطن الجمال والإبداع، فالنقد ليس مجرد التركيز على السلبيات والأخطاء والعيوب فحسب، ولكنه أيضا يكشف عن مساحات الجمال والإبداع في الأعمال والأنشطة، ولعل ذلك الأمر من بواطن إيجابيات النقد، كما أنه من هدى الرسول صلى الله عليه وسلم إذ كان يبدأ في الثناء أولا على الرجل ثم يرشده إلى ما ينقصه ويحتاجه، كما فعل مع عبد الله بن عمر.

ثالثا:  تنمية فن التساؤل؛ فالتفكير النقدي متصل بما لدى الفرد من ملكات وقدرات عقلية وذهنية وتفاعلية، ومن أهم الملكات التي ينميها الفكر النقدي ملكة وفن التساؤل، وكيفية تشخيص العلل، وإن الطرح المنظم للأسئلة حول قضايا الأمة المصيرية وأزماتها التاريخية يمثل أولى خطوات النجاح في الحل.

ويعطي جرعات من زيادة الوعي بأبعاد القضية، فالتساؤل يشكل جزءا حيويا من نظم التفكير لدى العقليات الناضجة، وهو الذي يكشف عن المسافة الفاصلة بين المأمول والمتاح، وهو الذي يمثل التعبير الحقيقي عن وجود مشكلة وأزمة.

رابعا:  إيجاد الحلول والبدائل؛ فالتفكير النقدي من طبيعته أنه تفكير إبداعي يركز على البناء لا الهدم، ومن ثم فهو قد يكون امتيازا إبداعيا، إذا ما وضع يديه على مواطن الخلل ووصف داءها، واستطاع أن يضع بدائل مناسبة لهذه الحلول أيضا، وهذا الأمر ربما يمثل أرقى درجات التفكير المنتج الفعّال.

فمن النادر أن تجد مفكرا ممتازا ينتقد ظاهرة من الظواهر، ويكشف عللها الكامنة دون أن يكون في ذهنه بعض الأفكار والحلول والبدائل، وغير ذلك يكون النقد نوع من جلد الذات والبكاء على الأطلال، وأفضل النقد ما يكون في ظلال البناء.

خامسا:  تجسير الهوات؛ بين الواقع والمأمول، والتخطيط والتنفيذ، فنحن عندما نفكر ونخطط نقوم بذلك على نحو فسيح وطليق خالي من القيود، ولكن عند التنفيذ نصطدم بعوائق الزمان والمكان والقدرات.

وهذا يقود إلى وجود مفارقة بين ما نرجو ونقول وبين ما ننفذ ونطبق، وهو ما يجعل للنقد دور مشروع ومطلوب على الدوام للتقريب بين هو مأمول ومتاح، فالناقد الجيد هو من يستطيع أن يري هذه المسافات والنقاط البينية في مشاريعنا وطموحاتنا، لأن هذه المسافات هي جماع العلل والمشكلات التي تعاني منها الأمة، وهي تشبه تماما المسافة بين المرض والعافية، الفهم والتيه، التدهور والازدهار.

التجرد وحده هو الذي سيدفع بالمسلمين بشتى انتمائهم لقبول فكرة النقد والتقويم في أمور حياتنا، وحركة اليد والعزم لو تباطأت فإن حركة العقل والفكر لابد أن تتباطأ بدورها، وهذا التحجر والتيبس الفكري والعملي هو الذي أصاب الأمة منذ بداية القرن الخامس الهجري، فدخلت بعده في غياهب الجمود، فأغلق باب الاجتهاد وحورب الإبداع والمبدعين، وفقدت الأمة كثيرا من مقومات صدارتها وريادتها.

فوقعت أسيرة لسلسلة من الغزوات المتتالية أشدها وأنكاها، الغزو الفكري والثقافي الذي وقع مع أواخر القرن الثالث عشر الهجري، وإنه لن ينصلح حال أمتنا إلا إذا اجتهدنا في العمل، ثم أتبعنا هذا العمل بالنقد البنّاء المخلص، الذي يتبعه تغيير وتصحيح مسار.
 

الكاتب: شريف عبد العزيز

المصدر:  موقع إسلاميات